قال ابن الرومي يرثي ابنه:
بكاؤكما يَشفي وإن كان لا يُجدي=فجودا فقد أودى نظيرُكُما عندي
بُنيَّ الذي أهدَتهُ كفّاي للثرى=فيا عزة المُهدَى ويا حسرة المَهدي
ألا قاتل الله المنايا ورَميَها=من القوم حبّاتِ القلوب على عَمد
توخَّى حِمام الموت أوسط صبيتي=فللّه كيف اختار واسطة العِقد؟
على حينَ شِمتُ الخير من لمحاتِهِ=وآنستُ من أفعاله آية الرشد
طواه الردى عني فَأضحى مزاره=بعيداً على قربٍ قريباً على بعد
لقد أنجَزَت فيه المنايا وعيدَها=وأخلَفَتِ الآمال ما كان من وعد
لقد قلّ بين المهد والحد لُبثُهُ=فلم يَنسَ عهدَ المهد إذ ضُمّ في اللحد
تَنَغَّص قبل الرِّيُّ ماءُ حياتِهِ=وفُجِّع منه بالعذوبة والبرد
ألحَّ عليه النزف حتى أحالَهُ=إلى صفرة الجاديِّ عن حمرة الورد
وظلَّ على الأيدي تَساقَطُ نَفسُهُ=ويذوي كما يذوي القضيب من الرّند
فيالكِ من نفسٍ تَساقَطُ أنفساً=تَساقُطَ درٌّ من نظامٍِ بلا عِقدِ
عجبتُ لقلبي كيف لم ينفطر له=ولو أنه أقسى من الحجر الصَّلد
بودِّي أني كنت قُدِّمتُ قبلَهُ=وأنّ المنايا دونه صَمدَت صَمدي
ولكنّ ربي شاء غير مشيئتي=وللرب إمضاءُ المشيئة لا العبد
وما سرَّني أن بعتُه بثوابِهِ=ولو أنه التخليد في جنة الخلد
ولا بعتُهُ طوعاً ولكن غُصِبتُهُ=وليس على ظلم الحوادث من مُعدي
وإني وإن مُتِّعتُ بابنيَّ بعده=لَذاكِرُهُ ما حنّتِ النِّيَبُ في نجد
وأولادنا مثل الجوارح أيها=فقدناه كان الفاجعَ البَيِّنَ الفَقد
لكلٌّ مكانٌ لا يَسُدُّ اختلالَهُ=مكانُ أخيه في جَزوعٍ ولا جَلد
هل العينُ بعد السمع تكفي مكانَهُ=أم السمعُ بعد العين يهدي كما تَهدي؟
لعمري: لقد حالت بيَ الحالُ بعده=فياليت شعري كيف حالت به بَعدي؟
ثكِلتُ سروري كلّه إذ ثَكلتٍه=وأصبحتُ في لذات عيشي أخا زهد
أريحانةَ العينين والأنف والحشا:=ألا ليت شعري هل تغيرتَ عن عهدي
سأسقيك ماء العين ما أسعَدَت به=وإن كانت السُّقيا من الدمع لا تُجدي
أعينيَّ جودا لي فقدا جُدتُ للثّرى=بأنفَسَ مما تُسألان من الرِّفد
أعينيَّ: إن لا تُسعداني أَلُمكُما=وإن تُسعداني اليوم تستوجبا حمدي
عذرتُكُما لو تُشغَلان عن البكا=بنومٍ، وما نوم الشجيّ أخي الجهد؟!
أقُرَّة عيني: قد أطلْتَ بُكاءها=وغادَرتَها أقذى من الأعين الرُّمد
أقرة عيني: لو فدى الحيُّ ميِّتاً=فديتُكَ بالحوباء أوّلَ من يَفدي
كأنيَ ما استمتعتُ منك بنظرةٍ=ولا قُبلةٌ أحلى مذاقاً من الشّهد
كأنيَ ما استمتعتُ منك بضمَّةٍ=ولا شمّةٍ في ملعبٍ لك أو مَهد
أُلام لما أُبدي عليك من الأسى=وإني لأُخفي منه أضعاف ما أُبدي
محمّدُ: ما شيء تُوُهِّمِ سَلوةً=لقلبيَ إلا زاد قلبي من الوَجد
أرى أخَوَيكَ الباقيينِ فإنما=يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعبٍ لك لذّعا=فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سَلوةٌ بل حزازةٌ=يَهيجانِها دوني وأشقى بها وحدي
وأنتَ وإن أُفردتَ في دار وحشةٍ=فإني بدار الأُنس في وحشة الفرد
أودُّ إذا ما الموتُ أوفَدَ معشراً=إلى عسكر الأموات أني من الوفد
ومَن كان يستهدي حبيباً هديةً=فطيفُ خيالٍ منك في النوم أستهدي
عليك سلام الله مني تحيةً=ومن كل غيثٍ صادق البرق والرعد